قديما، كان من النادر الحديث عن العنف، بهذا الزخم من التذمر الرائج حاليا بين مختلف الأوساط الاجتماعية. إذ كان من أبرز القضايا التي تستأثر باهتمام الرأي العام آنذاك، هو ما تلاقيه المرأة من معاناة وهضم للحقوق، ما أدى بعدة جمعيات نسائية ومنظمات حقوقية، إلى الانبراء للدفاع باستماتة عن كرامتها وحريتها. وبما أن العنف يندرج ضمن قائمة انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، سارعت مجموعة من بلدان العالم سنة 1984، إلى المصادقة على اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة....
بيد أن العنف تجاوز حدود الاعتداء على المرأة، وامتدت شرارته لتحرق الإنسان ككل، بقطع النظر عن لونه وجنسه وعمره ودرجة قرابته: طفلا، أم عجوزا، في المدرسة كما في الشارع... وإذا كان الإسلام دين المحبة والرحمة والحلم ونبذ العنف، باعتبار هذا الأخير من أمقت الرذائل المرفوضة، فإن الإرهاب أخطر صنوفه وحشية، يقتضي الضمير الإنساني الحي اجثتات جذوره وتجفيف منابعه. فما كان يدخل في إطار الخرافة خلال الأزمنة الغابرة، من سبي النساء وجز الرؤوس وحرق وهمجية... صار اليوم في القرن 21 واقعا ملموسا، يشيب لرؤيته الولدان وتقشعر لسماعه الأبدان، على أيدي جماعات إرهابية، نبتت بيننا كالفطر تحت مسوغ الدفاع عن الدين ك: القاعدة، داعش، أنصار الشريعة، بوكو حرام... وهلم عنفا وإرهابا. ذلك أن التعصب الديني الأعمى في ظل الخواء الفكري، والارتهان إلى مقولات الجهاد وتوظيف جزء من النصوص الدينية لنوازع سياسية وسلطوية، كلها عوامل تساعد على تكريس ثقافة التطرف ومحاربة التنوع والتعدد، التي لا تعترف عدا بمنطق القوة في تحقيق مقاصدها.
وفي نظري المتواضع، يعتبر العنف سلاح الجبان المفتقر إلى لغة الإقناع وآليات الحوار الرصين، العاجز عن إعمال العقل في بلوغ أهدافه، فيلوذ بعضلاته البدنية بدل الفكرية. وليس العنف مشكلا طارئا تمخض عما عرفته المجتمعات الإنسانية، من تطورات وتحولات عميقة بعد الثورة الصناعية، وما ترتب عنها من ظهور حالات التوتر والقلق وما إلى ذلك من الضغوط والاضطرابات النفسية، بل هو مشكل قديم بقدم البشرية، منذ أن أقدم قابيل ابن سيدنا آدم عليه السلام على قتل أخيه هابيل.
للعنف مظاهر متعددة ومتنوعة، ويمارس بشتى الأشكال حسب الظروف والأحوال، فهو نزعة عدوانية طبيعية لدى الإنسان ترتكز على رغبة تدميرية، تستوجب الحرص على مراقبتها والسهر على تهذيبها عبر التربية والتعليم. ومن غرائب الأمور أنه خلافا للإنسان، نجد أن هناك حيوانات لا تستعمل العنف إلا دفاعا عن حياتها عند وجودها في حالة خطر. والعنف لدى الإنسان سلوك أرعن، يقوم على استعمال القوة بطرق همجية، ويؤدي دائما إلى إلحاق الضرر بالغير إما جسديا أو نفسيا. وقد يأتي من طرف فرد أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دولة بهدف استغلال أو إذلال طرف آخر، في إطار علاقة قوة غير متكافئة، كما هو حال الكيان الصهيوني الإسرائيلي المتغطرس، وما يقوم به من إجرام وأعمال بربرية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل خاصة بقطاع غزة، أو دموية النظام السوري المستبد في تقتيل شعبه التواق إلى الحرية والكرامة، باستخدام ترسانته الحربية المدمرة وبراميله المتفجرة...
إننا نعيش اليوم حالات من الهلع والفوضى العارمة، في عالم رهيب يعج بالأحداث الموجعة، ويتسم بالعنف والاقتتال وتخريب الحضارات الإنسانية، فقدنا فيه كل دواعي السلم والسكينة والطمأنينة، نخرج وأبناءنا من بيوتنا أيدينا على قلوبنا نجهل إن كان الجميع سيعود سالما في آخر النهار، لما بتنا نلحظه من صور دامية، مستفزة ومقززة، تثير الاستياء والغثيان، سواء في أرض الواقع أو عبر القنوات التلفزيونية العربية والدولية، منها ما يلحق عاهات مستديمة بالإنسان ومنها ما يودي بحياته. وعلاوة على ما تقوم به الجماعات الإرهابية من أعمال إجرامية: تفجيرات، ذبح، حرق وتدمير... هناك ألوان أخرى من العسف ذي مخاطر متفاوتة.
ذلك أن العنف أصبح يلاحقنا ويتعقب خطواتنا أينما حللنا وارتحلنا، قد نصادفه في البيت كما في المدرسة والشارع والملاعب الرياضية. إنه بإيجاز تام إحدى أفظع المعضلات الراهنة، التي لا ينبغي الاستهانة بتداعياتها. ففي محاولات جادة للحد من مظاهره، استندت البشرية على مر التاريخ إلى الدين والثقافة، باعتبارهما من أهم العناصر الرادعة له معنويا وأخلاقيا، وإن كان من المرجح حسب الخبراء والباحثين، أن أحسن تقنية للتحكم فيه تتمثل في الحث على الاهتمام بالحياة السياسية، وأنه يتعين في هذا الصدد، إرساء أسس ديمقراطية حقيقية، لتدبير الخلافات والصراعات، بكيفية حضارية تقوم على قوة القانون وليس على قانون القوة. فهل هذا ما ينقصنا للقضاء على ظاهرة العنف وبسط الأمن والاستقرار؟
من الصعب الجزم بذلك، طالما العنف يتفشى بيننا بوتيرة متسارعة، وأمامنا نماذج عدة في هذا الاتجاه، يظل أكثرها شيوعا: اغتصاب الأطفال، تزويج القاصرات، الاعتداء على خادمات البيوت، التفكك الأسري نتيجة العنف المتكرر على الزوجة، اعتداء الأبناء على الأمهات والآباء، بالضرب المبرح المؤدي أحيانا إلى القتل تحت تأثير المخدرات وحبوب الهلوسة، أو الزج بهم في دور العجزة بدافع الاستيلاء على الإرث والمال، تنامي العصابات الإجرامية، استهداف المدرسين في المؤسسات التعليمية من قبل تلاميذهم، وما يتعرضون له من استفزازات ومضايقات واعتداءات جسدية أو العكس، فضلا عما تعرفه الملاعب الرياضية من شغب تمتد آثاره التخريبية إلى خارجها، وما عاشته ساكنة ولاية الدار البيضاء الكبرى من ترويع إثر بروز ظاهرة "التشرميل" في شهر مارس 2014. ولسنا ندري ما يخفيه لنا القدر من ظواهر أخرى !
علينا أن نحسن الإصغاء للآخر، باعتماد الحوار الهادئ والمثمر منهجا في التواصل، فهو البلسم الشافي للعديد من أسقامنا وجراحاتنا، وأن تسعى الدولة إلى بلورة استراتيجية متكاملة، لحل إشكالية العنف والحيلولة دون استمراره في الزحف والتمدد، سواء عبر مسلسلات العنف وأفلام الرعب والتطرف أو عبر منافذ أخرى، وأن تتضافر جهود جميع مكونات المجتمع المدني، من أسرة ومدرسة لضمان تنشئة سليمة، وأن تقوم كافة وسائل الإعلام بتنظيم برامج وحملات لإنارة العقول المظلمة، والتعريف بأخطار هذه الإشكالية ذات الأسباب المتداخلة والعميقة، التي تتطلب تشخيصا مبكرا سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو عضوية أو اقتصادية أو ثقافية...
وعلى نسائنا ورجالنا من خبراء ومفكرين وعلماء الدين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع... إنجاز دراسات علمية مستفيضة ودقيقة، تساهم في تسليط الأضواء الكاشفة على هذه الآفة المؤرقة، وتفضي إلى إيجاد السبل الكفيلة بمعالجتها، بدل الاكتفاء بالارتكاز على المقاربات الأمنية والأحكام القانونية.
اسماعيل الحلوتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق