المنتدى العالمي FET FORUM

2014-11-03

وجهة نظر : هل استوعبت الحكومة درس الإضراب العام؟

فضلا عن كون الإضراب حقا دستوريا، فهو وسيلة احتجاجية مشروعة،  للتعبير عن رفع ضرر ما أو المطالبة بتصحيح أوضاع قائمة، عبر مجموعة من الآليات الديمقراطية الحضارية والدستورية، كالامتناع عن مزاولة العمل... إلا أن حكومة السيد بنكيران ولغرض في نفسها، استطابت لعبة اعتماد ربط الأجرة بالعمل، دون التعجيل بتنزيل قانون تنظيم الإضراب المركون في الرفوف، لتجعل من عملية الاقتطاع من أجور المضربين، سيفا مسلطا على رقاب الأجراء والموظفين، حتى يتسنى لها تطويعهم وتمرير مخططاتها الجهنمية بدون ضجيج... 

   
والإضراب العام أخطر أنواع الإضرابات، لا تلجأ إليه النقابات إلا مكرهة بعد استنفاذها لكل أساليب الحوار الممكنة. وبالنظر إلى ما ارتبط بالأذهان من مآس مروعة حوله، تابع المغاربة باهتمام شديد عبر مختلف وسائل الإعلام، الأنباء المتلاحقة عن الإضراب الوطني العام، الذي دعت له المركزيات النقابية الثلاث: الاتحاد المغربي للشغل، الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل، وحددت له يوم الأربعاء: 29 أكتوبر 2014، ثم انضمام كل من الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، القطاع النقابي لجماعة العدل والإحسان ومنظمات أخرى ... إذ مازالت الذاكرة المغربية تختزن ما عرفه إضراب يوم: 20 يونيو 1981 من أحداث دامية، إثر انفلات أمني مباغت، جاء مباشرة بعد الإعلان عن رفع أسعار المواد الأساسية في سياق أزمة اقتصادية، وتحولت احتجاجات المواطنين إلى فوضى عارمة بمدينة الدار البيضاء، استدعت تدخل قوات الأمن والجيش بكثافة، وانتهت بخسائر مادية جسيمة في الأرواح والممتلكات، اعتقالات واسعة من بين المحتجين وخاصة الطلبة، وفصل عدد من رجال التعليم. وما شهدته كذلك مدينة فاس إبان إضراب يوم: 14 دجنبر 1990، من أحداث مؤلمة.

وإذا كان رئيس الحكومة السيد بنكيران، فاقدا للثقة في المعارضة والنقابات، متشككا في قادتها، ويعتبرهم متآمرين ضده. ويتجلى ذلك في عدم إيمانه بالمقاربات التشاركية، وتهريب ملف إصلاح نظام التقاعد إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لإبداء الرأي، ليس فقط بسبب تعيين رئيسه السيد: نزار بركة من قبل الملك، وإنما أيضا لما يحظى به من مكانة خاصة لديه مذ كان وزيرا للمالية في النسخة الأولى من حكومته، التي اعتبرت في شخص السيد مصطفى الخلفي وزير الاتصال والناطق الرسمي باسمها، أن الإضراب مفتعل، لا يستند إلى مبررات معقولة ودواعيه غير مفهومة، وأنه جاء لتهديد السلم الاجتماعي وزعزعة استقرار وأمن البلاد. فإن المركزيات النقابية المعنية، وجدت في هذه الادعاءات نوعا من الهلوسة، تنم عن انفصال تام للرجلين عما يجري حولهما من وقائع، وقد يكون بريق المنصب ذهب بلبيهما، وأفقدهما نور البصر والبصيرة، حتى صارا عاجزين عن إدراك منسوب الاحتقان الشعبي المتنامي. وبأنها سلكت كل السبل، في محاولات جادة لجر رئيس الحكومة إلى طاولة الحوار بلا جدوى، نظرا لمواقفه المتشددة واستمراره في خوض مسلسل إشعال النار في الأسعار، الإجهاز على القدرة الشرائية، خنق الحريات والتراجع عن المكتسبات....

من هنا، وتحت ضغط المناضلين والجماهير الشعبية، اتخذت النقابات قرار إضراب عام إنذاري، وإن كانت ترى فيه خيارا مؤلما، داعية قواعدها إلى الانضباط والالتزام بسلميته والحفاظ على المنشآت والمرافق، بل ذهبت إلى حد التنبيه إلى ضرورة اعتماد المداومة وعدم إفراغ المستشفيات وأقسام الإنعاش والمستعجلات، والاكتفاء بارتداء الشارة في أماكن أخرى كما هو الشأن بالقناة الثانية، والحرص على تعويض ساعات التوقف عن العمل مستقبلا. ألا يدخل مثل هذا السلوك في الحس الوطني الشريف؟

وبقطع النظر عما رافق الإعلان عن الإضراب، من تبادل الاتهامات بين الحكومة والنقابات، وتوعد الأولى للمضربين بالاقتطاع من رواتبهم، والثانية بشل حركة الاقتصاد الوطني، فإن الشارع المغربي عرف انقساما بين مؤيد ورافض ومحايد. حيث شكل المؤيدون أغلبية ساحقة من المتضررين في الطبقات الفقيرة والمتوسطة، من مسحوقين، عاطلين، أجراء وموظفين، وجميع الساخطين على سوء إدارة الشأن العام وتدبير الملفات الكبرى، تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية، وتدني مستوى العيش، جراء السياسات الجائرة للحكومة. ويمثل الرافضون أقلية من مناصري الحزب الحاكم "العدالة والتنمية"، يعتبرون الداعين للإضراب فئة من المفسدين، تعمل حسب أجندات خاصة لإرباك العمل الحكومي، والحيلولة دون مواصلة مشاريع الإصلاح، فيما هناك جماعات من "المحايدين" ترى أن ما يجري عبارة عن مسرحية هزيلة، أبطالها مجرد دمى متحركة في أيدي السلطات، تحركها متى ووقتما شاءت من وراء ستار...

ولئلا ننساق وراء ما أثاره تصريح السيد بنكيران من استياء وسخرية، بعدما تبين أن الخبر السار الذي تعهد بزفه للمغاربة مباشرة بعد نهاية الإضراب، وتضاربت حول دوافعه المبهمة الآراء، من قائل بأنه مقلب لإفشال الإضراب، وقائل إنه اكتشاف لآبار نفط بمنطقتي "ميدلت" و"أكوراي"، وقائل إنه دعم مادي للأسر الفقيرة والعاطلين.... ليس سوى جعجعة بدون طحين. فما جدوى إشاعة خبر تقدم المغرب في الترتيب العالمي على مستوى مناخ الأعمال، إذا لم ينعكس بالإيجاب على الحياة اليومية للمواطنين؟

وبعيدا عن تباين التقديرات في تقييم نتائجه، حيث تحدثت تقارير النقابات عن نجاح باهر للإضراب، تمثل في نسبة مشاركة عالية بلغت حوالي %  84، جسدها تجاوب جماهيري كبير انخرط فيه موظفو التعليم، الصحة، الجماعات المحلية، البريد والبنوك، وتم شل حركة الموانئ وعديد المنشآت الاقتصادية... بينما اعتبرته الحكومة يوما عاديا وأن نسبة المضربين لم تتجاوز % 40. لا، ليس عاديا، مادام آلاف الحانقين على سياساتها العمومية اللاشعبية شاركوا فيه غير عابئين بالاقتطاعات، وإن مر بسلام دون مواجهات ولا إراقة دماء، وأثبت للعالم أن الشعب المغربي عاقل وناضج، مما جعل بلده ينعم بالاستقرار عكس دول الجوار، التي تشهد انفلاتات أمنية وتطاحنات طائفية، وأنه حتى في ظروف القهر يرجح كفة التعقل، وبذلك يجتذب أعدادا متزايدة من السياح والاستثمارات الخارجية، ويحظى بثقة الفاعلين الاقتصاديين والدائنين. فإننا نتخوف من أن يولد الضغط يوما ما انفجارا نحن في غنى عنه...
  
نأمل أن يكون رئيس الحكومة، قد استوعب الدرس جيدا واستطاع التخلص من هواجسه، بتهنئته النقابات على تحملها مسؤولياتها في تأطير العمال والموظفين، وحرصها الشديد على مرور الإضراب في أجواء هادئة، حافظ خلالها المواطنون على السلم والأمن، وأن الحدث سيساهم في رفع أسهم إشعاع المغرب وتعزيز مكانته بين الدول. مبديا استعداده للتحاور مع الفرقاء الاجتماعيين بما يخدم مصالح المواطنين. فهل سيتحمل بدوره مسؤولياته؟ وما المانع من تغيير سلوكه وطريقة تقييمه لمنطق الأشياء، والتحرر من عناده واستفراده بقراراته، في ما تبقى له من شهور ولايته؟ فالرهان على الزيادة الهزيلة في منح الطلبة وأجور بعض المستخدمين، ودعم الأرامل، غير مضمون كسبه في الاستحقاقات الانتخابية القادمة؟ ويبقى الحوار الجدي، وحده الأسلوب الأمثل لتقريب وجهات النظر، وإيجاد الصيغ الكفيلة بتذليل الصعاب أثناء معالجة مختلف القضايا المطروحة مع النقابات، دون مزايدات سياسوية.

إسماعيل الحلوتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق