توفي بعد ولادته بسبع سنوات ففضل ألا تُدفن جثته لتبقى عرضة لضواري وكواسر الزمن ، ومنذ أربعين عاماً يُنظر إليه في عداد الموتى الأحياء أو في حُكم الموجود الغائب . كانت حياته ، بل كان تماوُته عبارة عن ليلة واحدة ، حالكة وطويلة . لكَمْ تمنى أن يأتي الصُّبح يوماً مثلما كان يفعل في طفولته الأولى ليضرب معه موعداً مع التسلية والتلهية ، ولكَمْ تمنى أن يرى نور الشمس بعينيه ويستمتع بأشعتها الدافئة في أيام الشتاء .
طوال هذه المدة كلها عاش أصمّ وأبكم بطبعه لا خلقة ، يود الحديث إلى الناس لكن لغته كانت دائماً مختلفة تماماً ، كما كان يرغب في مشاركتهم أوقات الضحك واللعب ، ولم يفلح ولو لمرة واحدة . ثم يكتفي بتساؤلات غريبة وتوسلات تثير الرحمة والشفقة .
كان دائماً يقـــول :
" ما يضحككم أيها المجتمعون ؟ أريد أن أنتشي مثلكم بهذه القهقهات التي تُسمع من بعيد ، لكن شيئاً ما يمنعني .
أعينوني على الخروج من هذا القبر اللعين .
أزيحوا عني هذا الثقل من على جسدي .
علموني أن أتكلم ، أن أشارككم أفراحكم ، أن أتخلص من هذا العجز الذي يسكنني ومن هذا الشلل الذي لا يبرح لساني وهذا الموت الذي يتملكنتي".
هذا الرجل كان حبيس قبره إلى أن استفاق من الإماتة في إحدى عشيات الخريف الماضي . يقول إن الفضل يعود إلى من نبشت عنه تراب الزمن القاسي حتى آخر غَبَرة ، واستطاعت أن تضخ دم الحياة في عروقه من جديد ليولد للمرة الثانية منذ زمن قليل . تُرى من تكون صاحبة الفضل هذه ؟
يعترف في كل لحظة ، وفي كل مناسبة بجميل فتاة أنيقة ، لطيفة ، عاقلة ، رزينة ، ثم يصير يقدم فيها المدح حتى يخونَه كلّ كلام جميل فيعودَ أبكمَ من جديد ، هي من يدين لها بالحياة والأمل والعيش طمعاً في الغد الأفضل والأحسن . لولاها لبقي في قبره إلى أمد آخر في الزمن البعيد .
سأله أحدهم : " يا رجل ، أخبرنا عن عذاب القبر ومحنته ".
أخيراً نجح في الخروج من قوقعته واستطاع أن يتكلم ويقول بلسان طليق : " قبري مختلف عن قبور الموتى الآخرين ، حاولت البحث عنه في جميع جبَّانات الدنيا ولم أجد له أثراً ، ليتبين لي أنني قبرٌ بعيني وأنني جبَّانة مآسي وآلام الدنيا كلها ، لَحْداي هما رأسي وقدماي . أما عن العذاب ، فهو شيء آخر مثل الجوع والعطش والحاجة الدائمة إلى ما يشبه الهواء الذي نتنفسه ".
الآن ، يعيش من أجل تحقيق أمنية واحدة فقط ، رؤية هذه الفتاة من جديد والاعتراف لها بما هو فيه اليوم من سعادة ، بعد أن أُطلق سراحه من ذلك السجن الذي مكث فيه أربعة عقود من الزمن . يفضل ألا يقول إنها ضاعت من حياته ويكتفي بالقول : " إن ما تبقى أمامي هو عمري الذي الذي لا ينبغي أن يضيع ".
· جبَّانة : جمعها جبَّانات وهي المقبرة .
اقرأ القصة ومواضيع أخرى في المنتدى العالمي الحوار المتمدن (الموقع الفرعي) من: هنـــــا |
ذ.أحمـد أوحنـي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق