الطاغية والوديــع
اسماهما ؟ من يكونان ؟ لا هذا ولا ذاك ، لا يهم بقدر ما تهم الورطة التي كُتب لهما أن يقعا فيها . ففي أحد أيام الصيف الحارة ، كان يتجول في الحديقة الافتراضية الموجودة في الجانب العصري من المدينة . وعندما أخذ منه التعب مأخذه ، اشترى لنفسه قارورة مياه معدنية وفضل الجلوس على كرسي إسمنتي موجود في ظل شجرة . قام بفكها ورفع رأسه ليشرب ويطفئ حالته المظماء ، ولم يكن يدري أنه على أهبة إشعال نار ستحرقه ، في هذا الوقت ، تلقفت عيناه فتاة تسير في الجانب الآخر من الطوار . صار يلمح مشيتها ، وملابسها الفاتنة .
وهي تحاول المرور إلى الجانب الآخر ، التفتت يميناً وتجنبت سيارة قادمة بسرعة جنونية ، في هذه اللحظة ، أشار إليها بيده واستجابت له بإشارة مماثلة . قام من مكانه ليلحقها على الفور وقال لها إنه يود التحدث إليها . لبَّت له رغبته وأجابت على مجموعة من الأسئلة على سبيل :
" ما اسمك ؟ كم هو عمرك ؟ أنت من هذه المدينة ؟ في أي حي تقطنين ؟ ألديك أبوان ، إخوة ، أخوات ؟ " . ثم ختم بالاعتراف لها بأنه معجب بها منذ تلك اللحظات . بدورها أكدت له على أنه وسيم ويحسن التحدث وأنها تحب أن تحصل لها علاقة مستمرة مع واحد مثله . وقبل أن يفترقا ، ضربا موعدا في المكان نفسه ، ثم توالت المواعيد ليمتنا علاقتهما يوماً بعد يوم حتى أنه لا يمر يوم دون أن يلتقيا .
هو يكبرها سناً ، ومع ذلك تمسكت به واعتبرته بعض الشيء الذي كانت تحتاج إليه . تقول إنه استطاع أن يحولها من فتاة حزينة وكئيبة إلى واحدة أخرى أصبحت تعيش على أمل كبير في أن الآتي سيكون أجمل وأفضل مما فات ، وأنه استطاع أن يرمم ما عاثه الزمان من حياتها ، حيث كانت تعاني هموماً جعلت منها تلك الفتاة التعسة التي فقدت الأمل في كل شيء جميل .
ومؤخراً ، في إحدى الليالي ، رن هاتفه ليتلقى منها مكالمة تفيده فيها أنها غادرت المدينة لتلتحق بعائلتها في مدينة أخرى بعيدة . أراد أن يستفسرها لكنها تعمدت إقفال هاتفها لتمر ليلته أطول من السنة كلها . في اليوم ، الموالي ، هاتفته مرة أخرى لتقوم بإحيائه من جديد .
يقول إنها تقسو عليه جراء ما لحقه منها من عذاب يومي لفراقها ، يصف نفسه بالوديع ويتهمها بالطاغية لحبه لها منذ أن تعرف عليها ، وهي بدورها تؤكد أنها تعيش الحالة نفسها ، وأنها أصبحت متعلقة به أكثر من ذي قبل . كما أنها أيضاً هي الوديعة التي ذهبت ضحية هذا الطاغي الذي يعذبها بما آل إليه حالها الآن . ولحبهما المتبادل توافقا على أن كلاًّ منهما طاغية ووديع في الوقت نفسه . حالياً ، يتواصلان عبر الإنترنيت وبواسطة الهاتف على أمل اللقاء يوماً ما من جديد . وهكذا قررا ألا يعذّرا في الأمر حتى يحققا أملهما المشترك .
إن بعض الناس يعجّفون أنفسهم عن الطعام والتمتع باللحظات الجميلة والسعيدة في الحياة جرَّاء ما يواجهونه من مشاكل متعلقة بالأسرة أو العلاقات الإنسانية أو ما مردّه إلى الأسباب الاقتصادية أو التي لها صلة بالوسط الذي يعيشون فيه ، هؤلاء لا يزيدون الأمر إلا سوءاً وتعقيداً .
إن المرء وهو يعيش من أجل شيء جميل منتظراً تحقيقه ولو طوال عمره ، ينبغي أن يعتبر حياته كلها عبارة عن فسحة خارج الجانب الحياتي الضيق والسلبي . فهو مطالب بأن يعيش يومه الذي استفاق فيه من جديد بعد وفاة اسمها النوم ، يخرج من بيته صباحاً وهو لا يدري خطواته أين تسير به ، إلى بيته من جديد أم إلى حافة قبره .
* الحكي من نسج الخيال ، وكل شيء فيه وافق الواقع فهو من قبيل الصدفة .
ذ.أحمـد أوحنـي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق