
وفي نفس الوقت فأرا أمام القطط السمينة التي اغتنت وماتزال تستفيد من استشراء الفساد في منظومة فقدت بوصلتها. فإذا كان هاجس الجميع اليوم هو تقويم واقع التعليم ببلادنا، فإن تشخيص بؤر الفساد في الوزارة والأكاديميات والنيابات وتطهيرها هو أولى الأولويات، قبل الحديث عن المناهج والشراكات ومشاريع المؤسسات والتكوينات وغيرها. ولأن ما تعرضنا له نملك عليه أدلة كثيرة نشرناها هنا مرارا، فإنه لم تمر إلا أيام قليلة على ما ذكرنا، حتى أتت الأدلة لكل من في «كرشه عجينة»، وهذه المرة من أكاديمية الرباط، والتي تعتبر المسؤولة بقوة القانون عن مكتب الوزير ومقرات الوزارة، وكذا من نيابة التعليم بخنيفرة، هذه المدينة الفقيرة التي ابتليت ببعض المسؤولين الذين ينظرون لمعاناة أطفالها في جبال الصقيع كمصدر للاغتناء فقط. ففي الرباط انفجرت فضيحة عندما تم اكتشاف اختفاء 4 ملايير سنتيم كانت مخصصة للعدة الدايداكتيكية في الجهة ضمن البرنامج الاستعجالي، والملف في يد المفتشية العامة الآن، إذن في انتظار معرفة مصير هذه الميزانية الضخمة، ينبغي أن نقارنها بـ«سرعة» توقيف أستاذة مادة علوم الحياة والأرض بالرباط ذاتها، لمجرد أنها تحصل على أجرة 30 ألف درهم من مؤسسة خاصة. فبمقابل «التريث» و«التعقل» وعدم «التسرع» في تطبيق مساطر النزاهة مع المسؤولين عن الفضيحة الأولى، نجد سرعة قياسية في الفضيحة الثانية. وفي انتظار أن يقدم بلمختار للرأي العام حقيقة ما وقع، سيكون عليه أيضا أن يكشف الحقائق الأخرى المتضمنة في التقارير الافتحاصية الكثيرة للبرنامج الاستعجالي، سواء تلك التي قام بها هو، أو تلك التي قام بها سلفه محمد الوفا، ليعرف المغاربة أين اختفت 45 مليار درهم التي خصصت للبرنامج الاستعجالي.
إننا لا نتهم أحدا، ولكن نطالب فقط بأن يكون بلمختار في مستوى خطاب النزاهة الذي اعتمد عليه في حربه على مدرسي الساعات الإضافية. فالمدرسون الذين يبتزون تلامذتهم بنقط المراقبة المستمرة ينبغي تأديبهم، والمسؤولون الذين يتلاعبون بالصفقات ينبغي، ليس فقط عزلهم، كما يفعل بلمختار مع كل المدرسين المتورطين في الساعات الإضافية، بل ومحاكمتهم أيضا، لأن المكان الطبيعي لكل المفسدين هو السجن، وليس المكاتب الباذخة وسيارات «الإم روج».
إن حروب النزاهة التي يقودها وزير التعليم تقتضي فحص ما وقع أيام «المال السايب» في برنامج «جيني» الرقمي، لمعرفة مصير الملايير الضائعة في صفقات الحواسيب الرخيصة والعُدد الإلكترونية التي زودت بها الوزارة المؤسسات التعليمية، لتتعرض للضياع منذ أشهرها الأولى بسبب جودتها «الصينية»، إذ عندما نجد دولة تحارب القرصنة في مجالات معينة، ولكنها في الوقت ذاته تعتمد على ماركات غير أصلية في الحواسيب، فإنه يجدر بنا أن نتساءل حول من أشَّر على صفقات هذه الحواسيب ومن حمى الشركات التي تكفلت بتوفيرها، والأهم أيضا مساءلة الذين يسعون اليوم للاغتناء مرة أخرى من صفقات المعدات الرقمية التي قامت بها وستقوم بها الوزارة، علما أن تجربة رشيد بلمختار ذاته، بصفته متخصصا في العلوم الرقمية ومستثمرا في هذا القطاع المربح، تمكنه من أن يعرف حجم التلاعبات التي سيقدم عليها المكلفون بتدبير الصفقات في هذا المجال، لاسيما عندما نعرف أن مسؤولين كبارا في الوزارة، يمتلكون عبر أقربائهم شركات ومقاولات في هذا المجال.
إن حروب النزاهة التي قام بها بلمختار، تستدعي أيضا أن ينظر في «بروفايل» بعض «العملاء» الذين يجولون ويصولون في الوزارة باسم المنظمات الدولية، هؤلاء الذين يدخلون للوزارة ببطائق السفارات، ويتجولون بسيارات تابعة للسفارات، هؤلاء الذين اكتسبوا مهارات خطيرة في السمسرة بمشاكل التعليم المغربي، ونقصد قائمة طويلة من «الخبراء» المغاربة الذين يتقاضون مئات الملايين من السنتيمات لكونهم يقومون بإنجاز تقارير لهذه المنظمات عن واقع تعليمنا.
ولكي يعرف الرأي العام بوضوح عمن نتكلم، فإن الأمر يتعلق بموظفين سابقين في الوزارة، حصلوا على تقاعدهم العادي أو النسبي أو المغادرة الطوعية، ولكن «ذكاءهم» جعلهم قادرين على التقاط ذبذبات الأموال القادمة من السفارات والمنظمات الدولية، حيث يتربصون بالتقارير السنوية التي تنجزها على المستوى العالمي، والتي غالبا ما تركز على موضوع معين، فيسارعون لوضع مشاريع ورقية، متقنة الحبكة، بحيث تصيب هوى في قلوب «آمري الصرف» في هذه المنظمات. ونظرا لكون مآسي تعليمنا لا تنتهي، فإن ينابيع الاغتناء عند هؤلاء لا تنضب أبدا، فمثلا إذا تناولت منظمة «اليونسكو» في أحد تقاريرها السنوية موضوع الفتاة القروية، فإنهم يسارعون لوضع مشاريع ورقية ذات أهداف رومانسية وبلغة رنانة، ونظرا لكون الحكومة عاجزة فإن هؤلاء يحصلون على الضوء الأخضر لاستباحة المدارس القروية، وكتابة تقارير عن واقع الفتاة القروية، ليحصلوا على تعويضات، لسنا نبالغ إن قلنا إنها بمئات ملايين السنتيمات.
والمضحك هنا، هو أنه عندما أخرجت الوزارة مذكرة تحض التلاميذ على تناول فواكه البحر، سارع البعض من هؤلاء «الخبراء» إلى التقاط الموجة، وقدموا مشروعا لمنظمة دولية لتمويل مشروع «تحسيسي» بأهمية تناول فواكه البحر، علما أن ثلاثة أرباع سكان المغرب لا يفرقون بين «غلالة» و«الكروفيت»، ومن الأطفال من لا يعرف البحر، ولم يسبق له رؤيته إطلاقا، فبالأحرى أن يعرف فواكهه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق