تكمن خطورة ظاهرة الغياب عن الدروس لدى التلاميذ في حجم الآثار الناجمة عنها، فهي آثار متعددة الأبعاد تتجاوز الأفراد لتطال المجتمع برمته و تؤثر على بعض مرتكزاته، كما أنها ذات امتداد زمني طويل لا تتوقف حدود تأثيرها على لحظة حدوثها
بقدر ما تتراكم نتائجها طوال حياة الشخص المعني بها. فما هي ملامح مختلف الآثار الممكن ترتبها عن هذه الظاهرة ؟إن تناول هذا الموضوع يكتسي أهمية خاصة بالنظر إلى حجم انعكاساته، و هو شديد الارتباط بعلم النفس التربوي، بيد أن معالجتنا له ستنصب فقط حول استقراء نتائج الظاهرة و آثارها المتعددة و السافرة من خلال جرد وصفي لأهم الاحتمالات المتوقع ترتبها عن تغيب بعض التلاميذ عن دروسهم، و ما يمكن أن ينجم عنه من مضاعفات. و دون الخوض في الجدال اللفظي بين مفردتي الغياب و التغيب و ما بينهما من اتصال أو انفصال، فإن قصدنا من هذا الموضوع لا يهم الحالات النادرة و المتقطعة، لسبب قاهر أو عذر معتبر، في عدم الحضور لبعض الحصص الدراسية، و إنما قصدنا هنا ذلك الإدمان المتعمد للتغيب باستمرار، وبسبق إصرار عن عدد كبير من الحصص و المواد المقررة.
و لعل الآثار المترتبة عن ظاهرة الغياب هاته كثيرة و متعددة، بحسبنا أن نشير هنا إلى بعضها مقسمة إلى المجالات الآتية:
الآثار النفسية:
إن الآثار النفسية للغياب تعكس حدود التأثر الذاتي بهذا المشكل؛ فالغياب عن حصص الدروس المبرمجة ناجم عن أسباب مختلفة قد تكون ذاتية متعلقة بالتلميذ أو موضوعية متعلقة بوسطه الأسري و ظروفه المادية أو وسطه التعليمي خاصة و الاجتماعي عامة؛ غير أن نتائجه النفسية تلحق دون شك التلميذ موضوع الظاهرة، و قد تختلف حدة هذه الانعكاسات بين التلاميذ لكن حدوثها مؤكد، و نجمل أبرز هذه الآثار فيما يلي:
ـ الشعور بالفشل و الإحباط و تلاشي حافز الإقبال على الدراسة: نتيجة حتمية تحصل بفعل صعوبة استدراك الدروس المقررة إن كتابة أو استيعابا. و قد يتعمق هذا الشعور أكثر بعد العجز عن الحصول على المعدل في فروض المراقبة المستمرة و امتحانات نهاية السنة، و من تم التعرض للرسوب و تكرار الفصل الدراسي.
ـ تنامي الرغبة في الانتقام أو تعويض الفشل: هذه نتيجة نفسية لاحقة تترتب عن النتيجة السابقة. فالتلميذ المعني لا يفكر غالبا في تجنب أسباب الفشل التي يدركها تماما، و لكن كثيرا ما يجنح إلى تعويضها بمحاولة إثبات الذات بوسائل أخرى و في مجالات توجد على هامش الفعل الدراسي، منها إثارة الشغب في الحصص الدراسية التي يحضرها، أو تبني سلوك غريب في اللباس و التصرف، أو في تعاطي المخدرات و باقي أشكال الانحراف الخلقي، أو باختلاق المعارك و الخصومات مع زملائه و المدرسين و الطاقم الإداري كسبيل لإثارة الانتباه و البحث عن تحقيق تفوق مفقود أو انتصار "وهمي"..
و كل هذه السلوكات و غيرها إنما تعكس اضطرابا نفسيا و توثرا داخليا يبحث عن متنفسات لتصريفه.
ـ الانطواء و الانعزال: عكس ما سبق هذه النتيجة قد تتمخض عن فقدان للثقة في النفس، و بالتالي شعور بالنقص إزاء الآخر عموما و الأصدقاء خصوصا، فيتولد عن هذا الشعور سلوك غير سليم يتمثل في تفاعل سلبي مع الوسط الذي يعيش فيه، ينتج عنه ميل للعزلة و الانفراد و تتشكل لدى المعني بعض الأمراض و العقد النفسية.
و يمكن أن تكون هناك نتائج نفسية أخرى لا حصر لها، لكن معظمها ذات طابع سلبي و تؤثر على شخصية التلميذ الذي يعيش في وسط متحرك مما يجعل هذه الآثار تتفاقم و لا تقف عند الحدود الفردية، بل تتجاوزها إلى المجتمع في صور و أشكال مختلفة.
الآثار الاجتماعية:
من خلال الآثار النفسية للغياب و انعكاساتها الواضحة على شخصية التلميذ، يتبين أنها تؤثر في سلوكه الذي لا يمكن فصله عن المجتمع بحكم أنه يرتبط حتما بالوسط الذي يعيش فيه بشبكة علاقات متعددة، و يتسم تفاعله الاجتماعي مع غيره في الغالب بالطابع السلبي. و يمكن إبراز أهم الآثار الاجتماعية من خلال:
ـ اضطراب العلاقات العائلية المنبثق عن سوء التواصل مع الآخر و الحدة في المزاج، مما قد يؤدي إلى تنافر في بنية الأسرة و تشنجات تكون لها عواقب وخيمة في حياة المعني، ليس في اللحظة التي يعيشها فحسب، و إنما ترافقه طوال حياته، و تظل مصدرا دائما للمشاكل في طريقه.
ـ توثر العلاقات العامة مع عموم الناس و مختلف الشرائح الاجتماعية، مع الأصدقاء و الجيران و الأقارب... و بجميع المرافق، بالشارع و الإدارة و السوق... و في جميع المناسبات سواء السارة أو المحزنة...
ـ قد تنتج عما سبق مضاعفات أكثر خطورة، فيقدم الشخص على إلحاق الضرر بالغير مخلفا ضحايا لانحرافه أو سلوكه غير السوي، إما بشكل مباشر عن طريق الاعتداء البدني أو على الممتلكات و ارتكاب جرائم من قبيل ما تعج به المحاكم، أو بشكل غير مباشر عبر نشر ما يقتنع به من أفكار و سلوكات غير سليمة في محيطه الاجتماعي و توسيع دائرة المشاركين معه فيما يقدم عليه من أعمال غير مشروعة: إدمان ـ سرقة ـ اعتداء ـ اغتصاب ـ اتجار في المخدرات ....
الآثار الاقتصادية:
لا يمكن تصور الأضرار السابقة دون أثر اقتصادي، يتضح من خلال المعالم الآتية:
ـ ضعف المردودية الناتج عن ضعف الكفاءة نتيجة الانقطاع المبكر عن الدراسة الذي كثيرا ما تكون ظاهرة الغياب إحدى أبرز أسبابه المباشرة. فقد كان العلم و لا يزال من أهم وسائل التأهيل البشري و الرفع من عطائه و مردوديته، فيما يؤدي ضعف التكوين و التعلم إلى العكس تماما.
ـ العزوف عن الاندماج في الحياة العامة أو المشاركة في عمل منتج مما يؤدي إلى خسارة عنصر نشيط و قوة منتجة و مورد بشري، يتفاقم كلما كان حجم الظاهرة كبيرا. لذلك فإن بطالة هذه الفئة بحكم تدني مستوى التكوين أو إحجامها المتعمد عن العمل، كل ذلك يؤثر سلبا على اقتصاد البلد.
ـ يضاف إلى ما سبق بعض الآثار غير المباشرة من حيث تقييم التكاليف التي تطلبها تمدرس المعني إلى حدود فترة انقطاعه عن الدراسة التي تذهب هدرا، و من تم خسارة الاقتصاد الوطني لجزء من رصيده المستثمر فضلا عن خسارة المساهمة أصلا في الإنتاج أو تدني الإنتاجية في حالة حجز موضع قدم في سوق الشغل.
ـ المساهمة في تعطيل قطار التنمية أو تأخير وثيرة سرعته، سواء تعلق الأمر بالتنمية الاقتصادية أو البشرية، حالا أو مستقبلا، بفعل الافتقاد إلى الحوافز النفسية و المؤهلات الفنية التي يستبعد اكتسابها لمن أدمن على الغياب في حياته الدراسية.
ـ تشويه سمعة المؤسسات التعليمية و إفشال قدرتها على النهوض بالأمة و الارتباط بمحيطها الاقتصادي و حجب صورتها و رسالتها الحقيقية عن الناس بإحالتها إلى مؤسسات لإنتاج الإحباط و تخريج الفاشلين.
عموما، فالنتائج المذكورة سابقا تبقى من قبيل الاحتمالات الممكن حدوثها في حدود معينة، و قد تتعزز بنتائج أخرى أكثر خطورة أو أقل حدة مما توقعنا. لذلك فإن هذه النظرة مجرد ملامسة سريعة لموضوع يحتاج لدراسة أكثر عمقا و أبحاث ميدانية تعتمد الاستمارات و البيانات الإحصائية و المعطيات المتوفرة لدى الإدارة التربوية و هيئة التدريس و مختلف الفاعلين في حقل التربية و التعليم في مناطق متعددة و على مدى زمني متوسط أو طويل قصد استخلاص نتائج شاملة في منتهى الدقة و قابلة للتعميم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق