المنتدى العالمي FET FORUM

2011-12-13

أدواء ... ودواء من الشـرق


             أدواء ... ودواء من الشـرق
            في الآونة الأخيرة يظل صديقي شارداً لمعظم الوقت . يضع يده على خده ويغرق في بحر من الأفكار اللامنتهية تأخذه إلى وجهة غير معلومة . قلت له غير ما مرة إنها عادة سيئة وتوحي بالفشل واليأس والاستسلام ، يتراجع عنها ولكن سرعان ما يعود إليها من جديد . سمعته يتكلم لوحده فظننته يغني ليرفه عن نفسه حتى تأكدت من أمره . من يا تـرى يخاطب وماذا تـراه يقول لمخاطبه الافتراضي ؟  من لا يعرفه يظن أنه أحمق ، ولكنني يقن على أنه يمر بحالة مرضية أوضائقة خانقة ما ، إما مالية أو عاطفية أو متصلة بعائلته الكبيرة أوالصغيرة  . وددت من باب الفضول أولاً أن أعرف هذا الشيء الذي جعله يعيش هذه الحالة  الكئيبة ، ثم إنني رغبت في الوقوف إلى جانبه ومساعدته كصديق لتجاوز أزمته .

         
ترددت كثيراً قبل أن أسأله ، ولكن بعد أن أصبح يثير شفقتي عليه وملاحظات الآخرين ، خاصة عندما علمت أنه لم يعد ينام إلا قليلاً ، وأن شهيته للأكل أصبحت غائبة تماماً ، زد على ذلك بعض العصبية التي تنتابه من حين لآخر وتصرفاته التي تغيرت وساءت ، وما كانت تلك عادته من قبل . أعرفه منذ سنوات ، رجل طيب الخلق والناس في محيطه يشكرون له خصاله الحميدة .
            قلت له ونحن راجلان خارج البلدة كعادتنا أيام العطل :
-         " ما هو هذا الشيء الذي يستحق أن تتعذب من أجله إلى هذا الحد ؟ اعلم يا صديقي أن لا شيء ينبغي أن تشقى لأجله ويحولك إلى ما أنت فيه الآن من هـمّ وغـمّ وسلال وهزال ".
-         " هل تشكو من مرض ما ؟ هل تحتاج إلى عون مالي ؟ أهو الأمر متعلق بشؤون الأسرة ؟ "
-         " إنني أراك تدنو من الموت من العجف ، أودّ مساعدتك حتى تخرج من هذا المَضِيق وتعود كما كنت في سابق الأيام " .
          سكت كثيراً وبالغ حتى جعلني أندم على استفساراتي التي حسبتها ثقيلة عليه ، وبدأت في لوم نفسي لهذا التدخل في حياة شخص وهذا التطاول على  سرائره التي لا يريد ربما أن يحجوها للغير . أخيراً ، جلس على جذع شجرة وطلب مني الجلوس إلى جانبه . زفـر بعمق ، وما كاد يحدثني حتى دفـق دمعه مثل طفل يفعل من أجل أمه .
تذكر كيف عاش يتيماً منذ طفولته الأولى رغم وجود والديه آنذاك ،
وكيف اغتصبت منه طفولته في وقت مبكر ،
وكيف كان يعامله أقرانه ، ذكوراً وإناثاً ، حيث وفد على حيهم من البادية ولم يكن يحسن الحديث مثلهم ،
وكيف كان رجال الحي يلقبونه على مسمعه ب : الغريب أو " البرَّاني" ،
وكيف اتخذته نساء الحي سخرياً لأحمالهن ، وكان يفعل ذلك مقابل ريال أبيض أو قطعة حلوى أو بدون مقابل ،
وكيف صفعته ذات مرة امرأة لأنه فقد في الطريق قطعة نقدية من خمسين فرنكاً ،
وكيف كانت تجبره زوجة أحد الأغنياء على حمل محفظة ابنتها الجميلة والأنيقة من وإلى المدرسة ،
وكيف كان مُلزماً على غسل ملابسه في الساقية أيام الجُمع والآحاد منذ ربيعه التاسع ،
وكيف كان يتسلل منتصف الليالي أو قبيل الفجر إلى أشجار الزيتون ويسرق كمية يلفها في سترته ويبيعها في الصباح الموالي مقابل عشرين فرنكاً أو أقل ،
وكيف قضى إحدى الليالي في مقبرة هرباً من العقاب لفعل لا يستحق هذا الهلع في نفس طفل صغير ، يقول إن الخوف فارقه إلى الأبد منذ تلك الليلة ،
وكيف بات ليله بدون وجبة عشاء مرات عديدة ،
وكيف ... وكيف ... وكيف ...
كل هذا وأشياء أخرى عندما تطفو الآن على سطح أفكاره ، يتألم ويودّ لو كان بإمكانه إعادة حياته من جديد ، لعله يسلك سبلاً أخرى قد تكون أحسن لتصنع منه رجلاً أفضل منه .
اليوم وقد أخذ المشيب منه ، يتذكر هذه الأدواء(1) المؤلمة التي لا تزال تلازمه في كل وقت . قال لي وهو يبتسم :
" لقد وجدت لنفسي وصفة سحرية عجيبة ستشفيني عما قريب " .
قلت له : " هكذا أتمنى أن تكون ، ولكن ماذا تكون هذه الوصفة ؟ " .
أجاب في استحياء : " دواء شاف يوجد في جوف قلب فتاة شرقية " .
نحن دائماً ننتظر على عجل شيئاً ما نحن في حاجة إليه آملين أن يغير حياتنا إلى ما هو أحسن وأفضل . وقد لا يأتي ويطول انتظارنا وتطول معه المآسي بالنسبة إلى البعض ، وتدرك المنية البعض الآخر ويرحل عابراً لتمر حياته كلها مجرد وجود مثل العدم.

--------------------------------------------------------------
(1) : أدواء ، جمع داء .
·        كل ما وافق وطابق الواقع ، فهو من نسج الخيال وسبيل الصدفة .
                                                        أحمـد أوحنـي – مراسل وكاتب صحافي
                                                                                                      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق